الثلاثاء، 27 أبريل 2010

الصداقة كما يراها الرافعى


إن الصداقة الحقة عند الرافعى تقوم على قاعدتين هما: حرص على الحق وحرص على الحب، فلو عرف الإنسان الحق معرفة صادقة لما سكت عن كلمة تسرُّ الناس وتُسعدهم: «آهِ لوْ عَرَفَ الحقَّ أَحَدٌ لما عَرَفَ كيفَ ينْطِقُ بكلمةٍ تُسيءُ، ولوْ عَرَفَ الحبَّ أَحَدٌ لما عَرَفَ كيفَ يسكُتُ عنْ كلمةٍ تسُرُّ، ولنْ يكونَ الصديقُ صديقاً إلاّ إذا عَرَفَ لكَ الحقَّ، وعَرَفْتَ لهُ الحبَّ»
أنواع الأصدقاء
يعرض علينا الكاتب أربعة أنواع من الأصدقاء الزائفين لنحذرهم، ولا نعتد بصداقتهم:
النوع الأول: ذلك الشخص المُلازم لك ملازمة الشيطان يُوسوس بالشر، ويدعو إلى الخطأ، وخير لك أن تُخالفه وتُعاديه. والنوع الثاني: ذلك المُرافق الذي يتكلّف لك المودّة، ويُلاينُك متى وجد عندك خيْراً يقتنصه، أو فرصة ينتهزها، فهو كالذبابة تتهافت على العسل متى وجدته، فإن لم تجده طارت لتبحث عنه في موضع آخر
إذا المرءُ لا يرعاكَ إلا تكلفا ً **** فدعهُ ولا تكثر عليه تأسفا
ً ففي الناس إبدالٌ وفي الترك راحة ٌ ******** ولا كل من صافيتهُ لكَ قـد صفـا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ٌ **** فلا خيرَ في خل ٍ يجيءُ تكلـّفا
ولا خيرَ في خل ٍ يخونُ خليلهُ **** ويلقاه من بعـد المودّة بالجـفا .
والنوع الثالث: ذلك الشخص الذي يتظاهر لك بالحب، ولا يتحمّل تبعات الصداقة، ولا يُشارك في الشدائد، فنفسه غائبة عنك كأنها منفى جديد اضطررت للإقامة فيه دون أن تعرف عنه شيئاً، فلا أنس ولا راحة.
والنوع الرابع: ذلك الصاحب المتلوِّن كتلون جلدة الوجه، تحمرُّ في الصحة، وتصفر في المرض، فهو معك إن كنت في خير، وبعيد عنك إن كنت في شر
لا خيرَ في ودِّ امرىءٍ متـلوِّن ****** إذا الريح مالتْ،مالَ حيث تميلُ
وما اكثر الإخوانَ حين تعـدُّهم ****** ولكنهـــــــــم في النائباتِ قلـيلُ .
ثم يختم الكاتب هذه الفقرة بأن هؤلاء الأصدقاء الأربعة غير مخلصين لك، وغير حريصين على إسعادك، إذ لا يندمجون في مشكلاتك ليحملوا عنك عبئها، ولكن يقفون على الهامش، كأنهم علامات على ظهور المصائب لا إخوان يُشاركون في تحمُّلها، ويُحققون معنى الصداقة. يقول: «لا أُريدُ بالصديقِ ذلك القرين الذي يصحبُكَ كما يصْحبُك الشيطانُ، لا خيْرَ لكَ إلا في معاداته ومُخالَفته، ولا ذلك الرفيق الذي يتصنَّعُ لكَ ويُماسِحُكَ متى كان فيكَ طعْمُ العسلِ لأنَّ فيه روحَ ذبابة، ولا ذلك الحبيبَ الذي يكونُ لكَ في هَمِّ الحُبِّ كأنَّهُ وَطَنٌ جديدٌ، وقدْ نُفِيتَ إليْهِ نفْيَ المُبْعَدين، ولا ذلكَ الصَّاحبَ الذي يكونُ لكَ كجِلدةِ الوجْهِ تحمرُّ وتصْفرُّ، لأنَّ الصحةَ والمرضَ يتعاقبانِ عليْها. فكُلُّ أولئكَ الأصْدقاءِ لا تَراهُمْ أَبَداً إلاَّ على أطْرافِ مصائبِكَ، كأنَّهمْ هناكَ حُدودٌ تَعْرِفُ بها منْ أيْنَ تبْتدئُ المُصيبَةُ لا منْ أَيْنَ تبْتَدِئُ الصَّدَاقَةُ، ولكن الصَّديقَ هو الذي إذا حضَرَ رأيْتَ كيفَ تظْهَرُ لك نفْسُكَ لتتأمَّلَ فيها، وإذا غَابَ أحسَسْتَ أنَّ جُزْءاً منْكَ ليْسَ فيكَ، فسائرُكَ يحِنُّ إليْكَ. فإذا أصبْحَ من ماضِيكَ بعْدَ أنْ كانَ منْ حاضِرِكْ، وإذا تحوَّلَ عنْكَ ليصِلَكَ بغيِرِ المحْدودِ كما وصَلَكَ بالْمحدودِ، وإذا ماتَ .. يوْمئذٍ لا تقولُ: إنَّهُ ماتَ لكَ ميِّتٌ، بلْ ماتَ فيكَ ميِّتٌ، ذلك هو الصَّدِيقُ».
الصديق الحق
وقد وضع الكاتب في الفقر الأخيرة مقياساً للصداقة الحقة استقاءً من صداقته للشيخ أحمد الرافعي، فيقول: إن الصديق الحق ينبغي أن يكون بالنسبة إليك كالمرآة ترى نفسك فيه عند حضوره، فتسعد لوجوده، وإذا غاب أحسست أن جزءاً منك غاب، لأنكما شيء واحد، وكل منكما يُكمل الآخر. فإذا مات وأصبح من ذكريات الماضي بعد أن كان من أركان الواقع، وغادر عالمك المحدود، ليصلك بالعالم العلوي الذي لا نهاية له ولا حدود، لا تحس أن شخصا عاديا مات، بل تحس أن جزءاً منك قد مات في أعماق نفسك، وهذا هو الصديق الحق.
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها **** صديقٌ صدوقٌ صادقَ الوعـد ِ منصفا