الأربعاء، 6 يوليو 2011

محاربة الكفار أم محاربة الفقر؟ - بقلم فهمى هويدى





هل يمكن تطبيق الشريعة فى دولة مدنية ديمقراطية؟ لست صاحب السؤال الذى أدهشنى استدعاؤه كما صدمتنى الإجابة التى قدمت له.

(1)

إليك عيَّنة من الإجابة مقتبسة من النص المنشور: لا بالتأكيد. لا يمكن تطبيق الشريعة فى دولة ديمقراطية، وألاَّ سوف تفقد طبيعتها الديمقراطية. فالشريعة الإسلامية لا تتعامل بشكل متساو فى الحقوق والواجبات بين الذكر والانثى (للذكر فى الميراث حظ الانثيين). وكذلك تفرق بين المواطنين على أساس الدين (تطالب غير المسلم بدفع جزية).. والأمثلة كثيرة للغاية لا مجال لحصرها. أما المواءمات التى يقوم بها البعض لإيجاد تماس بين العوالم الراهنة من ناحية وبين الشريعة من ناحية ثانية، فهى محاولات تدعو للغثيان من قلة حيلتها.

إن محاولات تطبيق الشريعة فى زماننا تعانى من اشكاليات عدة، أولاها: الانتقائية. فعلى سبيل المثال الرجم أداة عقابية تعود لعصور مضت فلا داعى للحديث عنه. قطع يد السارق يعد تشويها لجسد الإنسان مما يتعارض مع حقوق الإنسان فلا داعى لتطبيقه. تنادى الشريعة بقتال المشركين. بالطبع مستحيل قتال المشركين فى عالم اليوم، فلا داعى لأن نتطرق إليه.. (إلى جانب ذلك) فثمة فجوة هائلة بين الواقع السياسى والاجتماعى الراهن وبين المرجعيات الحكومية لأولئك المطالبين بتطبيق الشريعة. فما رأى الشرع فى إقامة علاقات ومشروعات مع كفار الصين أو كفار الهند على سبيل المثال؟.

الخلاصة: إن كل التطبيقات الاجتماعية الحاكمة فى ظل الشريعة هى قواعد تاريخية تنتمى لعصور سحيقة لا مجال لتطبيقها اليوم، وتتناقض مع مبادئ المواطنة والعدالة فى الحرية بمفاهيم زماننا.

(2)

لا أجد جديدا فى هذا الكلام، فكتب غلاة المستشرقين تحفل بمثله. لكن حز فى نفسى أمران أولهما أن الذى نقله مثقف متميز وأديب واعد هو الأستاذ خالد الخميسى (صحيفة «الشروق» عدد 26/6) والثانى أن الكاتب ذكر فى حديثه عن الدولة المدنية أنه درس العلوم السياسية واطلع على مختلف الموسوعات السياسية ولم يجد لهذا المصطلح أثرا، وهو ما دفعنى إلى التساؤل: لماذا يا ترى لم يفكر صاحبنا فى أن يقرأ ولو كتابا واحدا فى الإسلام بدلا من أن يقرأ عنه. ذلك أنه لو فعلها لما ورط نفسه فى ترديد تلك المعلومات المنقوصة والشائهة.

ربما عرف مثلا أن الأصل هو المساواة بين الرجل والمرأة حيث بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، بنص القرآن وربما عرف ان مضاعفة نصيب الرجل فى الإرث مقارنا بنصيب المرأة ليس قاعدة مطلقة. ولكن النصيب يختلف باختلاف المركز القانونى لكل منهما. فحالات مضاعفة النصيب لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فى حين أن ثمة حالات تتساوى فيها أنصبة الرجل والمرأة. وحالات أخرى تحصل المرأة على نصيب يزيد على ما يستحقه الرجل. ربما عرف أيضا أن مسألة الجزية تقليد قديم سابق على الإسلام، وإنها فرضت على غير المسلمين، لأنهم حينذاك لم يكونوا يشتركون فى الدفاع عن ديارهم، وكان المسلمون هم الذين كانوا يتولون هذه المهمة ويموتون نيابة عنهم. والاتفاق قائم على أنهم إذا انخرطوا فى سلك الجندية واشتركوا فى الدفاع عن وطنهم فإن الجزية تسقط. وللعلم فإن قيمة الجزية التى تعد أقرب إلى ما نسميه فى مصطلحات زماننا بأنها «بدل جهادية». أقل من قيمة الزكاة التى يتعين أن يدفعها المسلم إلى بيت المال.

ربما عرف كذلك أن تطبيق الحدود له شروط تكاد تكون مستحيلة وتعجيزية (كما فى الزنى مثلا). وفى حالة السرقة، فإن تمام الوفرة لكل شخص شرط لتطبيق الحد، علما بأن بعض فقهائنا يذهبون إلى أن الحدود التى كانت ضمن آخر مانزل فى الإسلام. هى للردع والزجر بأكثر منها للتطبيق. أما حكاية الأمر بقتال المشركين هكذا دون أى مبرر. فهى من قبيل الانطباعات الكاريكاتورية الرائجة فى بعض الكتابات الاستشراقية، ذلك أن ثمة أمرا صريحا فى القرآن يمنع العدوان على الآخرين وتجنب القتال إلا فى حالة الدفاع عن النفس. وفى غير ذلك. فالأصل فى العلاقة مع الآخرين بمن فيهم الكفار والمشركون هو «البر والقسط» بنص القرآن. ولو أن صاحبنا قرأ شيئا فى التاريخ الإسلامى لعرف أن النبى عليه الصلاة والسلام امتدح «حلف الفضول» الذى عقده كفار قريش للدفاع عن الضعفاء، وقال إنه لو أدركه للحق به وانضم إليه. وليته قبل أن يخوض فى تفاصيل الأحكام فتح كتابا فى الفقه ليدرك القاعدة التى تقول بأن الأصل فى العبادات هو الاتباع وان الأصل فى المعاملة هو الابتداع. ولربما قرأ شيئا عن تغير الأحكام بتغير الأمكنة والأزمنة والأحوال، وغير ذلك من آيات عبقرية وحيوية الفقه الأصولى.
لست فى مقام الرد على ما ذكره الكاتب، لكننى فقط أردت أن انبه إلى الأخطاء المعرفية التى وقع فيها، حين أطلق أحكاما فى موضوع لم يعتن بدراسته فوقع فيما أساء إليه.

(3)

مثل هذه الكتابات من تداعيات حالة الاستقطاب الخطر الحاصل فى مصر الآن، الذى جعل الانتماء إلى الإسلام موضوعا للخلاف. ذلك أنك ربما لاحظت أن النص الذى نحن بصدده لا يتحدث عن شيطنة المسلمين كما هو الشائع. وإنما هو ينطلق من تقبيح شريعة الإسلام، التى اعتبرها مناقضة لمبادئ المواطنة والحرية والعدالة.

خطورة الكلام تكمن فى أنه يوجه إلى مجتمع يشكل المسلمون 94٪ من أهله. بمعنى أنه يتحدى ويحرج مشاعر الأغلبية الساحقة من المؤمنين، ويشترط لإقامة الدولة الديمقراطية تنازلهم عن جزء من ديانتهم بحجة أن الشريعة باتت منتهية الصلاحية وضارة بصحة المجتمع. كأن عليهم أن يختاروا بين الشريعة وبين الديمقراطية.

حين يصبح الأمر كذلك فينبغى ألا نستغرب إذا تعمقت الفجوة بين المتدينين وغيرهم من العلمانيين خاصة، كما لا ينبغى ألا يفاجئنا شعور البعض وترويجهم لمقولة أن هؤلاء مناهضون للإسلام ورافضون لتعاليمه. وحين يشيع ذلك الانطباع فلابد أن يكون له تأثيره السلبى على الوفاق الوطنى والسلام الاجتماعى. وإذا اضفنا إلى ذلك أن مصر مقبلة على انتخابات نيابية وبلدية ورئاسية، فإن ضرره الفادح سيكون من نصيب كل الواقفين فى المربع العلمانى بغير تمييز.

إن السؤال الأهم الذى يطرحه استدعاء موضوع الشريعة والطعن فيها ينصب على مدى الملاءمة والجدوى فى فتح هذا الملف فى الوقت الراهن. إذ إنه يفترض أن الإسلاميين فازوا بالأغلبية فى الانتخابات، وانهم تسلموا السلطة فى مصر وشرعوا فى الإعداد لتطبيق الشريعة.
إن شئت فقل اننا بصدد إعادة إنتاج لفكرة الفزاعة، التى يراد بها التخويف من شبح مزعوم، الأمر الذى يستنفر المجتمع ويصرفه عن مشاكله الحالية لينشغل عنها بمحاذير المستقبل وظنونه. بالتالى لا يصبح السؤال عندنا هو كيف نستنهض قوى المجتمع بمختلف مكوناته واتجاهاته للدفاع عن الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعى، وانما تطرح علينا اسئلة أخرى مغايرة من قبيل هل نطبق الحدود أم لا، ما وضع الجزية، وهل تعلن الحرب على الكفار فى الكرة الأرضية بدلا من أن نضيع وقتنا فى محاربة الفقر؟

(4)

أدرى أن الجماعات التى تنتسب إلى الإسلام وترفع رايته أصبح لها حضورها بصوتها المرتفع فى الساحة المصرية، وإن ما كان محظورا منها أو محبوسا فى ظل النظام السابق استرد حريته وصار طليقا بعد الثورة. وهو ما يطرح عدة أسئلة منها مثلا: لماذا لا يتم «تطبيع» العلاقات مع تلك الجماعات، الأمر الذى يبقى على الخلاف معها كما هو، ولكن يقيم تلك العلاقات على أساس من الاحترام الذى يستبعد التسفيه والازدراء، بما يسمح بالتوافق حول قضايا الساعة وأولويات المرحلة ولماذا لا نتعامل مع تلك الجماعات كما يتعامل المجتمع الأمريكى مع اليمين المسيحى فى الولايات المتحدة، وهو القطاع الذى يعج بالأطياف والتنويعات التى تتجاوز فى عددها ما نشهده فى الساحة المصرية. ذلك أنهم هناك يتعاملون مع اليمين الدينى بثقة ورصانة واحترام، فى حين أن البعض عندنا لا يكف عن لطم الخدود وشق الجيوب كلما صادفوا شيئا لا يعجبهم فى ممارسات الجماعات الإسلامية.

بين يدى كتاب صدر بالفرنسية حول المنظمات الإنجيلية، فى الولايات المتحدة ألفه البروفيسور مختار بن بركة الباحث الفرنسى من أصل تونسى، وترجمه إلى العربية الأستاذ أحمد الشيخ الذى اختار لها عنوانا هو: المسيحية هى الحل. ليس فقط لأنه يأتى مقابلا لشعار الإسلام هو الحل، ولكن أيضا لأن تلك قناعة الجماعات الدينية فى الولايات المتحدة، وقد ذكر المؤلف أن الرئيس الأسبق رونالد ريجان رفع فى حملته الانتخابية (عام 1980) شعار الإنجيل هو الحل. كما ذكر أنه قبل الثورة الإسلامية فى إيران عام 1979 كانت الجماعات الأصولية المسيحية أعلنت عام 1976 عام الإنجيلية فى أمريكا. ومما قاله بيلى جراهام الداعية الإنجيلى الأشهر فى هذا الصدد: «الإنجيل يقرر بأن علينا أن نقود البلاد وإذا لم تحكم أنت أو أحكم أنا (من الإنجيليين) فإن الملحدين والعلمانيين سوف يحكموننا. ولذلك ينبغى علينا أن نسيطر على كل جوانب الحياة».

من النقاط المهمة التى أبرزها الكتاب ما يلى:

إن فى الولايات المتحدة 66 مجموعة منظمة تنتمى إلى اليمين المسيحى هدفها الأساسى هو العمل على الوصول إلى السلطة وإعادة تنصير أو تمسيح أمريكا. وقد أصبحت تلك الجماعات خلال العشرين سنة الأخيرة أهم وأقوى حركة شعبية وقوى سياسية فى الولايات المتحدة، ولها تمثيلها المشهود فى الحزب الجمهورى وفى مجلسى النواب والشيوخ.

إن هذه المجموعات لا تعترف بالفصل بين الدين والسياسية، فهى تدافع حقا عن الأخلاق الدينية وتعارض الاجهاض والشذوذ الجنسى، لكن لها دورها فى اشعال الثورات فى دول الاتحاد السوفيتى السابق. وفى ملاحقة النفوذ الفرنسى فى غرب أفريقيا، وتمثل سندا كبيرا لإسرائيل كما تعد ورقة ضغط قوية لصالحها فى الولايات المتحدة.

إنها تقسم العالم إلى معسكرين، أحدهما يمثل قوى الخير التى تتربع الولايات المتحدة على قمتها، والثانية قوى الشر التى كانت الشيوعية رمزا لها فى الماضى، وقد احتل ما سمى بالإرهاب الإسلامى مكانتها الآن. (لاحظ أنها نفس فكرة «الفسطاطين» التى طالما تحدثت عنها بيانات تنظيم القاعدة).

إنها احتفت بأحداث 11 سبتمبر التى اعتبرها اثنان من زعمائهم جيرى فالويل وبات ربورتسون عقابا الهيا لبلد مذنب بابتعاده عن دينه وتفلته الأخلاقى، ووصله بين السياسة والقوانين وبين القيم المسيحية التقليدية. وعلى شاشة التليفزيون قال بات ربورتسون يوم 13 سبتمبر «إن الله سمح لاعداء أمريكا أن يلحقوا بنا ما قد نستحقه».

إذا كانت جماعات اليمين الدينى فى الولايات المتحدة تضع السياسات وترجح كفة المتنافسين على الرئاسة، فإنها فى إسرائيل تحكم وتهيمن على الكنيست وتتمدد داخل الجيش، وتنفذ خطط الاستيطان واقتلاع الفلسطينيين. ومن ثم فلا وجه للمقارنة بينها وبين دور وممارسات اليمين الدينى فى مصر والعالم العربى.

إننا نستأسد على بعضنا البعض، ونتسابق على الإقصاء والتشويه واصطياد النقائص والزلات، لكن حصيلتنا صفر على صعيد التوافق والتلاقى والتنافس على خدمة الناس ومحبة الوطن.