الاثنين، 18 يوليو 2011

لا للفوضى


بقلم: م. محمد أنور رياض

مثلها مثل الدواء كانت الثورة المصرية (من السموم الناقعات دواءً) قضت على رءوس نظام مبارك؛ إلا أن أعراضها الجانبية بدأت تهدد جسد الأمة المنهك..



قامت الثورة بلا قائد، حاملة أشواقًا وآمالاً كبيرة فضفاضة، وما إن تداعى نظام مبارك حتى ظهر هول ما كان يختفي تحته من بلايا لم يكن معروفًا سوى عناوينها.. وكان الجميع يعلم أن هناك فسادًا اتضح أن وصف زكريا عزمي له بأنه واصل للركب كان تهريجًا. فالتقارير التي تحدثت عن الفقر والعشوائيات قلل من شأنها منافقو السلطة بنظرية نصف الكوب المملوء ونسبة زيادة عدد المواطنين مالكي السيارات وأجهزة التكييف، ورد عليهم من يحسبها باختفاء كوب الماء النظيف وغالبية من يستخدم حمامات بلا سيفونات. ولكن ما تكشف من الواقع كان أشد مرارة، وباختصار أسفر المشهد صبيحة سقوط مبارك عن وجود تسونامي من المطالبات (فئوية وسياسية واقتصادية وخدمية) يستحيل على أي كمبيوتر أن يضع برامج ترتب أولويات، ووسائل مواجهتها، وخاصة في حالة من الفراغ الأمني وانفلات وتبجح لعناصر الإجرام وأرباب السوابق و"رد" السجون وتوقف الإنتاج وغلق البورصة والبنوك وهروب السياحة ونهب المؤسسات والسرقة بالإكراه، وباتت الأسر في ذعر وهلع رغم محاولات لجان الحماية الشعبية. ولم يكن في البلد من هو في حالة من التماسك سوى القوات المسلحة والإعلام.



الإعلام راجت أسواقه وانتعشت بفعل عطش الناس إلى الأخبار والرغبة العارمة في معرفة ما كان محجوبًا عنهم من خبايا النظام وخيباته، الأمر الذي شكل وقودًا لآلات الرغي واللت والعجن وأزاح الستار عن وجوه كانت بالأمس أقفية مدبرة، وأصبحت اليوم مقبلة بأقنعة الباحثين المتفقهين المشغولين بالهمّ الإستراتيجي يرسمون مستقبل الناس بما يحفظ لهم مكان الصدارة، مستبدلين فيه باستبداد مبارك استبداد ما يسمى بالنخبة التي عاشت مترفة في ظل النظام الساقط معزولة عن جموع الغلابة من شعب مصر.



أما القوات المسلحة والتي بدت أمام الحدث العظيم وكأنها فوجئت بمسئولية تلقى على كاهلها لم تكن في الحسبان. فكان عليها أن تقود سفينة تعصف بها الأنواء من كلِّ جانب. ولأن الجيش يرفض الزج به في مستنقع السياسة ويرغب في الاحتفاظ بعسكريته وحرفيته، حدد- منذ اليوم الأول- مهمته في العبور السريع بالبلد وتسليمه خلال 6 أشهر (تم تمديدها بعد الاستفتاء إلى 9 أشهر) للحكم المدني الديمقراطي. وفي سبيل ذلك بدت خطواته وقراراته متحفظة، راعى فيها ألا تتسبب في أي تغيير جوهري على شكل الدولة تاركًا تلك المهمة للسلطة التي سيختارها الشعب بحريته وإرادته.



كان من الطبيعي أن تصبح حكومة شرف هدفًا سهلاً، وكأنها لوحة تنشين في ميدان تدريب على إطلاق اتهامات لا ترحم، ظلموا حكومة شرف عندما وصفوها بحكومة الثورة التي جاءت من ميدان التحرير، الرجل وجد نفسه يخوض في مستنقع وأوحال مخلفات نظام مبارك ومعه مجموعة من الوزراء غير متناغمة، وكأنهم سكان في عمارة جديدة، غالبيتهم تكنوقراط بلا خلفية سياسية ولا تجارب متفاعلة مع نبض الشارع، يسيطر عليهم إحساس بأنهم كوبري لمرحلة ينتقلون بعدها إلى سلة المهملات؛ فخرجت قراراتهم موقعة بأيد مرتعشة مترددة، وأحيانًا كرد فعل للحدث متأخرة، وتارة بلا معنى، وكأنها تسديد خانة أو لإثبات أن معالي الوزير ما زال على قيد الحياة، البعض قال عنها إنها حكومة بلا صلاحيات مشلولة، ومقيدة بسلطة المجلس العسكري، ولا أظن أن هذه الاتهامات صحيحة على إطلاقها، أو أن المجلس العسكري يمثل حائط صدٍّ وعائقًا أمام إبداعات أي وزير أو طرح حلول ثورية غير تقليدية واقتحام المشاكل المتفجرة بدلاً من الأساليب البالية في الاحتواء والتسكين، لم يكن المجلس مستعصيًا على التحاور والإقناع أو الاقتناع، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية الطبيعة العسكرية لرجال تعودوا على أسلوب خاص في تعاملاتهم إلا أنه هو المسئول الأول والأخير عن عبور المرحلة الانتقالية في أمان. نعم، قد تكون له حساباته ومحاذيره ورؤية أشمل للأمن الوطني، وقد يكون واقعًا تحت ضغوط عربية ودولية، ولكنه يدرك جيدًا أن الجميع في قارب واحد وله هدف واحد، ولا بديل عن وجوده على مسافة واحدة والتوافق مع قوى الشعب جميعًا،


أبرز وزراء شرف ممن كانوا محورًا للشد والجذب ثلاثة،


ولنبدأ بوزير الأمن الذي تسلم جهازًا كان ذراعًا للبطش متكبرًا متعاليًا يظن أنه قادر على أن يقول للشيء كن فيكون؛ فأصبح هذا الجهاز بين غمضة عين وانتباهتها مهزومًا مقهورًا عرضة للانتقام، وكان


على الوزير أن يزيل الجلخ الذي ران على آدميته ويعيده لوطنه وأهله، وهي مهمة لا يمكن تحريكها بالماوس أو استخدام "أجعص" برامج الكمبيوتر لتغييرها، وخاصة أن العناصر الفاسدة المرتشية وعناصر أمن الدولة الذين تحولوا إلى وحوش بممارساتهم الدموية لم يستسلموا لواقعهم، وهم يشعرون أنهم ما زالوا يمتلكون ما يمكنهم من الضرب هنا، وهناك لإثارة القلاقل والبلبلة. الوزير ابن مؤسسة الشرطة تدرج بين جنباتها، ولربما مارس في بعض مراحلها ما قد لا يكون مصدر فخر له... ثم إنه كان واحدًا من المحافظين في نظام مبارك، وهذا منصب لا يوهب إلا لِمَن كان موضع رضاه. ورغم تستره وراء القانون- وهو توجه يحسب له- في تعامله مع المتهمين من الضباط بقتل الثوار إلا أن ذلك لم يخفِ تراخيًا أقرب للتعاطف معهم. الوزير له إيجابيات في تحسين قدرة أداء الشرطة وتناميها ويمكن البناء عليها، ولا أظن أن الاقتراحات المسلوقة التي شنفت آذاننا عن هيكلة الشرطة أو الاستعانة بخريجي الحقوق أو تعيين وزير مدني يمكن أن تكون مفيدة بل من شأنها أن تزيد القلق والارتباك.



الوزير الآخر هو وزير العدل وهو رجل له احترامه، يشهد له تاريخه الوظيفي إلا أن الفكر الذي بدأ به هو تلبية رغبة الشعب في استعادة أمواله المنهوبة، والمهربة في الخارج، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بمحاكمة مدنية عادلة والطريقة التي اتبعها لتحقيق ذلك كانت الطريقة التقليدية في التحقيق مع رموز الفساد واستنباط الأدلة والتحريات، ثم الدفع بالقضايا لنظام من التقاضي بطيء وممل يترك الفرصة لألاعيب المحاماة، مما استهلك وقتًا طويلاً جدًّا. هذا النظام كان من الواجب نسفه واستحداث ما هو مناسب لواقع الثورة مع عدم الإخلال بالعدالة بما يحفظ للقاضي استقلاله وهيبته ويأخذ بخناق الفجار حتى لا يفلتوا من القصاص من خلال ثغرة إجرائية أو لعبة ورقية.



الوزير الثالث هو وزير المالية وهو رجل أخفق في ترجمة الأرقام وتوظيفها لتنساب نقودًا إلى الجيوب الفارغة وغلبت عليه ثقافة البنك الدولي ولجنة السياسات القادم منها والتي كان شعارها (أجيب لكم من منين)؟!.



فماذا عن شباب الثورة أو ما تبقى منهم؟


تميزت ثورة 25 يناير بأنها قامت بإجماع من الشعب، أشعل فتيلها شباب مصر واحتضنتها الجماهير بكل أطيافها وحماها الجيش، إجماع ما لبث أن انشق مع أول خطوات التحول الديمقراطي، وكما هو معلوم من تطور الأحداث التي كان محورها الاستفتاء والمحاولات المستميتة للانقلاب على نتائجه من قبل النخبة التي نخَّبت نفسها وفقهاء الدستور ممن خلعوا على أنفسهم لقبًا تحلَّى به باشوات الثورة الجدد لكل من تفيقه أو تفهيق واستطاع أن يباهي بمعرفته أن في الإعلان الدستوري مادة رقمها 398 مكرر!!!... وتعددت مظاهر فتنة (الدستور أولاً) بانعقاد مؤتمرات الشقاق وتنوع أشكالها وقاعاتها الفاخرة، وتصدر من ينفق عليها، وشارك فيها بعض الشباب ممن لعب الإعلام المدلس وأضواؤه بأدمغتهم الغضة، خلط فيها النقاء الثوري بشوائب الدس وكمائن السياسة، الغرض من كل هذه الألاعيب كان واضحًا للعيان، وهو أنهم يخشون صندوق الانتخاب، ولأن الإخوان فصيل يتعبد بخدمة أهله وناسه فقد مد يدًا ظلت ممدودة في صبر وحكمة، حتى كلل الله جهده بالاتفاق على تجمع يتحمل فيه أعضاؤه استحقاقات المرحلة القادمة، وبدا للجميع أن خطة المجلس العسكري المستفتى عليها في سبيلها لتخطي كل ما وضعوه في طريقها من معوقات. وفجأة توالت الأحداث وتداعت في تصاعد مثير.



الهجوم المشبوه على مسرح البالون، معركة مفتعلة في التحرير ومقر وزارة الداخلية والتحرش بقوات الشرطة العسكرية، ثم الدفع في صدر الفضائيات بمطالب شرعية وواجبة لأسر الشهداء للقصاص ممن قتلوا أبناءهم ساعد على تأجيجها قرار سيئ التوقيت بالإفراج عن الضباط المتهمين بقتل الشهداء السوايسة.



وعلى الأثر ارتفعت صيحة (الثورة أولاً) مصدرها أصحاب شعار الدستور أولاً، وصاحبها حملة إعلامية مفادها (الثورة ضاعت يا رجالة.. يا تلحقوها يا ما تلحقوهاش) ولا بدَّ من الرجوع لميدان التحرير والتلاحم بين جميع القوى. دعوة ذات هدف لا يمكن رفضه على الرغم من... ومن... وهكذا شارك الإخوان بعد تردد ملحوظ. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها وجود سلبيات لا يستطيع أحد أن يبررها في أداء وزارة اختلت أولوياتها وأصبحت بلا رؤية سياسية، ولكن- وللحقيقة- في الوقت نفسه تحقق قدر من الاستقرار، ولاح في الأفق أمل قريب يبشر بانتقال ديمقراطي يُتدارك فيه كل ما قصّرت خلاله المرحلة الانتقالية. كانت رسالة التظاهر يوم 8 يوليو واضحة وكافية لِمَن يهمه الأمر، خاصة أنها خرجت عن إجماع واتفاق. إلا أن البعض دخل في طورٍ غريبٍ من المزايدة ورفعوا قائمة من الطلبات، منها ما هو مشروع ومنها ما يمكن تأجيله، إلا أن الغريب هو التهديد بالعصيان المدني وقطع الطرق ومنع حركة السفن في قناة السويس وغلق البورصة، وكلها خطوات لا يوجد اتفاق عليها، وبالتالي لا يمكن نسبتها إلى الثورة؛ لأنها تنال من أرزاق المواطنين وتهدد أمنهم وتنكد عليهم حياتهم. ذكرتنا بأيام هروب السياحة وتوقف الإنتاج. الجديد في الموضوع هو الهجوم على المجلس العسكري والهتاف بسقوطه، بعد أن كانوا يطالبون بتمديد الفترة الانتقالية. بل والنص في الدستور على ضمانة من الجيش ضد وصول الإسلاميين للحكم. فماذا يريدون بالضبط؟!!.



استخدم قميص عثمان بن عفان الملوث بدمائه مدخلاً للفتنة الكبرى التي عصفت بالدولة الإسلامية وما زالت آثارها تلاحقنا حتى الآن. وأخشى استغلال دماء شهداء الثورة لفتنة تطيح بمنجزات 25 يناير.



الفتنة تطل برأسها لعن الله من أيقظها وأسهم فيها بعمل طائش.


وأدعو الله أن يخذل كل من رفع شعارالفتنة أولا