الأربعاء، 25 يناير 2012

الطريق إلى 25 يناير د مصطفى النجار







لا يقول الحقيقة من يدعى أن نزولنا يوم ٢٥ يناير الماضى كان بهدف عمل ثورة وإنما كان منتهى طموحنا حينها إقالة حبيب العادلى ومحاكمته وإيقاف سيناريو التوريث وإلغاء قانون الطوارىء وإقرار حد أدنى للأجور لتحقيق العدالة الاجتماعية، كانت أحلامنا منخفضة السقف بسبب ما نحياه من قمع واستبداد فى هذا الوطن منذ خرجنا للحياة فيه من بطون أمهاتنا.

كانت القوى السياسية مصدرا دائما لإحباطنا بسبب تشرذمها وعمالة بعضها للنظام ولم يجد جيلنا الزعيم الملهم القائد الذى يلتف حوله وحتى بظهور الدكتور محمد البرادعى ومطالبته بالتغيير وضع الرجل لنفسه اتجاها يرفض شخصنة عملية التغيير ويحث الشباب على أخذ المبادرة وتحقيق الحلم بأنفسهم.

حين كنا نجمع التوقيعات على بيان التغيير «وهو النشاط الأساسى للجمعية الوطنية للتغييرحينها» كان كثير من الناس يسخرون منا ويقولون اجمعوا ملايين التوقيعات واجمعوا أوراقكم واذهبوا بها إلى قصر مبارك وسيطل عليكم من شرفة القصر ساخرا ويقول لكم أحسنتم.. إننى مستمر فى الحكم مهما جمعتم من توقيعات بلا معنى..!!

كان بعضهم يقول لنا لا حل إلا باستخدام العنف أو حدوث انقلاب عسكرى يطيح بمبارك وكنا دائما نرفض هذه الأفكار لأننا نؤمن أن قوة اللاعنف هى القوة التى لا تستطيع أى قوة غاشمة مستبدة مواجهتها، إذ ماذا تفعل الدبابة أو المدرعة أمام إنسان يقف أمامها وهو أعزل لا يملك سوى ايمانه بقضيته ومبادئه.

قبل إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة ٢٠١٠ كنت قد اقتربت من اليأس التام فى إمكانية تغيير هذا النظام الديكتاتورى، ليس بسبب قوة هذا النظام بل لضعف المعارضة الشديد وتفككها وصراعاتها التى لا تنتهى.

وعلى الجانب الأخر كان قلبى ينفطر حزنا على ملايين المصريين الفقراء الذين يعملون كموظفين فى جهاز الدولة أو عمال فى بعض الشركات والمصانع، وأنا أرى احتجاجاتهم اليومية التى يطالبون فيها بتحسين رواتبهم وحوافزهم الشهرية التى لا تكفى ليعيشوا حياة كريمة، كان بعضهم للأسف يرفعون صور الطاغية مبارك ويستنجدون به، رغم أنه سبب مشاكلهم باستبداده وبفساد نظامه، كنت أذهب لهؤلاء البسطاء الطيبين أمام مجلس الشعب وأقول لهم إن حياتكم لن تتغير إلا إذا تغير النظام كاملا، فيرفضون حديثى ويقولون لى: ملناش فى السياسة، إحنا عايزين نعيش وخلاص، كنت أبكى حينها على هذا الشعب الذى استطاعت العصابات الإجرامية لنظام مبارك المسماة بأمن الدولة فى زرع الخوف فيهم لهذا الحد، لدرجة أنهم يبتعدون عن المواجهة الحقيقية ويطلبون من الجلاد أن ينصفهم..!!

وحين تم تزوير الانتخابات البرلمانية بالكامل كنت سعيدا جدا بهذا التزوير الفج، رغبة فى أن يكون صدمة للمعارضة لكى تتوحد وللشعب لكى يستيقظ، ولا أنسى هذا اليوم المؤلم الذى ذهبت فيه للعمل بالمستشفى التى أعمل بها بمحافظة الفيوم وفوجئت على مدخل الطريق الرئيسى للمدينة بصفوف من الأطفال من تلاميذ المرحلة الابتدائية الذين وقفوا فى صفوف تحت أشعة الشمس الحارقة وهم يحملون ورودا، فسألتهم لماذا أنتم هنا؟ قالوا لى إن سوزان مبارك تزور المدينة وقد أجبرنا المعلمون على النزول بلا استثناء لنكون فى استقبالها ونحن واقفون هنا منذ ٣ ساعات مع هذه الشمس الحارقة، دمعت عينى وأنا أستدير بسيارتى لأجد عدداً من الفتيات الصغيرات يقعن على الأرض من شدة الإعياء والمجهود فى هذا الجو القاسى، حينها شعرت أننا صرنا عبيدا عند ملوكنا، وأن مبارك هو ملكنا الذى نخدم فى بلاط قصره، أصابنى الغضب الشديد وهتفت من أعماقى، لسنا عبيدا لأحد، نحن أحرار كما ولدتنا أمهاتنا.. الحرية الحرية.

وقامت ثورة تونس التى فاجأتنا جميعا وشعرنا بالخجل ونحن نقارن أنفسنا بهم ولكن فى نفس الوقت بدأ إحساس جديد يسيطر علينا وهو أننا نستطيع وأننا لسنا أقل منهم ومن هنا ولد بنفوسنا أمل جديد يقول إننا نستطيع ولا بد أن نكسر حاجز الخوف.

حين كنا نرتب لمظاهرات يوم ٢٥ يناير من خلال حملة البرادعى التى شرفت بقيادتها قبل اندلاع الثورة بقليل وكنا ننسق مع حركة ٦ أبريل ومع صفحة خالد سعيد من خلال صديقى وائل غنيم والذى رافقنا فى العمل فى بداية تكوين الجمعية الوطنية للتغيير وحملة البرادعى.

كانت الفكرة لدينا هى التركيز فى بعض المحافظات التى من السهل استثارتها حتى تنتقل عدوى الاحتجاج إلى المحافظات الأخرى واختار الشباب الإسكندرية والسويس والمحلة الكبرى والفيوم وقنا.

كنت أرى أن اختلاف الهتافات فى المظاهرة الواحدة يضعف تأثيرها، فاقترحت على وائل عمل قائمة بالهتافات الموحدة فطلب منى إنجاز ذلك وبالفعل أعددت هذه القائمة بعد عدة اقتراحات مع عدد من النشطاء، كان أهمهم نشطاء الإسكندرية واشتملت قائمة الهتافات الموحدة على الآتى:

تحيا مصر.. تحيا مصر

عيش.. حرية.. كرامة إنسانية

حرية.. حرية.. حرية.. حرية

يا حرية فينك فينك.. الطوارئ بينا وبينك

مش هنخاف مش هنطاطى.. إحنا كرهنا الصوت الواطى

شعب تونس يا حبيب.. شمس الثورة مش هتغيب

بالروح بالدم.. نفديك يا وطن

ارفع صوتك قول للناس.. إحنا كرهنا الظلم خلاص

واحد اتنين.. احنا المصريين

صحى الخلق وهز الكون.. مصر بلدنا مش هتهون

راجعين راجعين.. يا بلدنا مش خايفين

جايين جايين.. يا بلدنا نوفى الدين

لما شعب تونس قام.. هرب اللص والمدام

حد أدنى للأجور.. قبل الشعب ما كله يثور

حقى ألاقى شغل وأعيش.. والملاليم ما بتكفيش

يلا يا مصرى صحى الروح.. الحرية باب مفتوح

المحدود الدخل يموت.. ولا ينادى بعلو الصوت

يلا يا شعب عدى الخوف.. خلى الدنيا تصحى تشوف

شعب حضارة ومجد سنين.. مش هيطاطى ليوم الدين

وفى كافيه قصر الفنون بالأوبرا اجتمعت يوم ٢٣ يناير مع النشطاء محمود عادل ومحمد أنيس وأحمد سلامة وسارة كمال ومصطفى محمد وآخرون. واتفقنا على التفاصيل الدقيقة الخاصة بنزول نشطاء حملة البرادعى يوم ٢٥ يناير، وتحملت سارة كمال مسؤولية إعداد اللافتات وكتابتها وكذلك نقلها لمكان التظاهر الذى قررنا أن يكون شارع قصر العينى بالقرب من ميدان التحرير وقررنا أيضا ألا نعلن عن مكان التظاهر إلا قبلها بقليل وباستطلاع آراء النشطاء فى المحافظات المختلفة وصلتنا القائمة التالية بالأماكن التى سيتم التظاهر بها وهى كالتالى:

أما بالنسبة للقاهرة الكبرى فقد دارت بينى وبين أحمد ماهر، منسق حركة ٦ أبريل، نقاشات طويلة حول اختيار أماكن التظاهر وكنا مجمعين على أن تضارب الأماكن وتعددها بلا حشد حقيقى سيضعف اليوم ومن المواقف الطريفة التى لا أنساها قبل يوم ٢٥ يناير بيومين حين كان وائل غنيم يتحدث معى على الشات من «الجى ميل» وكنا نتناقش فى تفاصيل التحرك النهائى وإذا به يفاجئنى أن أحمد ماهر بجواره فى قطر فى مؤتمر عن الإنترنت والتدوين، وطلب منى وائل أن ندخل على الشات نحن الثلاثة عبر إيميل الشهيد المخصص لصفحة كلنا خالد سعيد حتى لا يعرفه أحمد ماهر حيث كان وائل حريصا على إخفاء شخصيته عن الجميع وأصبحت أقوم بالشات فى صندوقين الأول أنا وماهر ووائل والثانى أنا ووائل فقط، كنت أضحك من قدرة وائل على الكتمان إذ إنه يجلس بجوار أحمد ماهر وفى نفس الوقت يقوم بالشات معه دون أن يدرى أحمد ماهر أن الجالس بجواره هو ادمين صفحة خالد سعيد الذى لا يعرفه سوى عدد يعد على الأصابع فى مصر.

المهم اتفقنا على أن تتوزع حركة ٦ أبريل ومعها الحركات الشبابية الأخرى فى شارع جامعة الدول العربية ومعهم جزء من حملة البرادعى مجموعة «معا سنغير» وهى المجموعة التى ضمت زياد العليمى وباسم كامل ومحمد عرفات وآخرين ، بينما تتوزع حملة البرادعى الأساسية عند جامعة القاهرة بميدان الجيزة وفى المطرية، وأخبرت وائل بعد ذلك أننا لابد أن نعلن بعض الأماكن التى لن نذهب إليها لتشتيت الأمن وإضعاف قدرته على الوصول المبكر لأماكن التظاهرات قبل أن تبدأ وتتم عملية الحشد المطلوب، وتم الإعلان عن الأماكن التالية:

وعلى الجانب الآخر كان هناك عدد من المجموعات الشبابية أهمها شباب من أجل الحرية والعدالة والجبهة الشعبية للتغيير السلمى وبعض المجموعات الصغيرة المنتمية لأحزاب مثل الجبهة والغد والتجمع وبعض شباب الإخوان المسلمين الذين نشطوا للمشاركة فى اليوم بشكل منفصل عن جماعة الإخوان المسلمين كانوا يقومون بالتنسيق معا للنزول من خلال عدة اجتماعات كانوا قد بدأوها معا منذ الحديث عن تكوين البرلمان الشعبى الذى حاول تنفيذه الدكتور أيمن نور والدكتور محمد البلتاجى من الإخوان المسلمين وعدد من النواب السابقين، وعقدوا آخر اجتماع لهم وحدثت اختلافات كبيرة حول تحديد الأماكن وشكل النزول، وكان الناشط أحمد بدوى أحد من حضروا هذا الاجتماع وخرج بانطباع سلبى عن نجاح يوم ٢٥ يناير بسبب هذه الاختلافات وسجل هذه الملاحظات على صفحته بـ«فيس بوك» و«تويتر»، وكان وائل غنيم حريصاً على ألا تعمل أى مجموعة بشكل منفرد ولذا حاول الاستفادة من كونه طرفاً محايداً ومجهولاً للجميع على تقريب المواقف، ولكن فى النهاية لضيق الوقت اضطر وائل لنشر الأماكن وترتيبات اليوم بعد نصيحة منى ومن الناشط محمود سامى أحد أبرز نشطاء حركة ٦ أبريل، بناء على خبرة منا فى التعامل مع النشطاء الذين لا يتفقون إلا بصعوبة بالغة.

وقمنا بتغيير المكان الرئيسى لنا كحملة البرادعى إلى شارع قصر العينى أمام دار الحكمة، وأبلغت وائل بذلك وقام بنشر ذلك على صفحة خالد سعيد، وأتذكر أن من بين الذين كانوا معنا يوم ٢٥ يناير فى هذا المكان مع حفظ الألقاب عبدالمنعم أبوالفتوح ومحمد اأبوالغار وبلال فضل وعبدالرحمن يوسف ووائل غنيم وحمزة نمرة ومحمد دياب وعمرو سلامة وخالد البرماوى ومحمد الجارحى، وحدث ما حدث من كسر للكردونات الأمنية وتزايد الأعداد ومطاردات مثيرة فى شوارع جاردن سيتى ثم انهيار السيطرة الأمنية بالكامل ودخلنا إلى ميدان التحرير قبل غروب الشمس بقليل لننضم إلى متظاهرى شارع جامعة الدول العربية ومجلس الشعب وكل مناطق القاهرة الأخرى، كنا لا نصدق أنفسنا، مشاعر متداخلة، نبكى ونضحك ونكاد نرقص من الفرحة، لم نكن نعلم ما الذى ينبغى فعله الآن فلم تكن هذه الخطوة فى حساباتنا، ولم نتخيل أنها من الممكن أن تحدث، أشار صديقى الشاعر عبدالرحمن يوسف بضرورة توحيد الميدان عبر صوت قوى يسمعه الجميع لذلك أخرج من جيبه مبلغاً مالياً لشراء السماعات والميكروفون لنتمكن من توجيه هذا الجمهور، بدلاً من أن يظل بلا هدف.

وقررنا أن نأخذ كهرباء من عمود النور بجوار إشارة المرور المطلة على الميدان باتجاه مطعم «هارديز»، وحين احتجنا كهربائياً وجدنا العديد من الكهربائيين ضمن المتظاهرين.. جاءت المعدات، وفشلنا فى أن نجهزها للعمل. ولكن صمم عبدالرحمن يوسف على تنفيذ الفكرة، وطلب منى أن أحضر أجهزة أخرى وقد كان، فأخرجت ما فى جيبى كاملاً، وتم شراء عدة أخرى ونجح الفنيون فى تركيبها.

أمسك عبدالرحمن بالميكروفون، وقال:

بسم الله الرحمن الرحيم

يا شباب مصر.

أعلن عن بدء إذاعة التغيير ومقرها ميدان التحرير بالقاهرة.

فانفجر جمهور الحاضرين بالتصفيق والهتاف.

ثم أكمل: يعد برامجها ويحررها ويقدمها شباب مصر الثائر المعتصم بميدان التحرير- وهنا دوى الميدان بالهتاف اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام». وأخذ يحمس الشباب بخطابات حماسية وقال لهم إذا استيقظت القاهرة غداً ونحن هنا فى الميدان فستهتز مصر وتنضم إلينا وستكون ثورة كاملة، يا شباب إن أنصاف الثورات مقابر للثوار فأكملوا ثورتكم وبالفعل، امتلأ الجميع حماسة وتصميماً على البقاء فى الميدان حتى الصباح.

أعلنا كذلك عن فتح الباب للحديث فى الإذاعة لمن يريد أن يلقى قصيدة أو أغنية أو كلمة، وبدأنا بتلقى الطلبات من الجمهور، وكنت أقوم بتسجيل أسماء الراغبين فى الكلام فى ورقة، ووعدنا الجميع بأن تكون الإذاعة ملكاً للجميع، وقد كانت كذلك بالفعل، لمدة ساعتين!

بدأنا بفعاليات الإذاعة، وبدأ المتحدثون بالحديث، أذكر أن أول المتحدثين كان الدكتور علاء الأسوانى، وتحدثت أيضاً السيدة جميلة إسماعيل، والدكتور عبدالجليل مصطفى، والنائب الإخوانى محمد البلتاجى، وغيرهم.

قبل انتصاف الليل، كانت تحركات الشرطة أصبحت مريبة، لذلك وجه عبدالرحمن يوسف جموع الحاضرين إلى التفرق على مداخل الميدان المختلفة لتأمينها جميعاً.

بعد انتصاف الليل كان صوت عبدالرحمن قد بلغ به الإرهاق حداً رهيباً، فلم يتمكن من مواصلة إدارة الإذاعة، فأعلنا عن راحة قصيرة، وبدأنا بالتجول على مداخل الميدان المختلفة للتأكد من أن جميعها قد تم تأمينه وكانت هذه فكرة عبدالرحمن يوسف الذى اصطحبنى معه للاطمئنان على انتشار الشباب فى مداخل الميدان المختلفة.

وفجأة، ودون أى سابق إنذار، مع وصول عقارب الساعة إلى الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل بدأ الهجوم الوحشى من الأمن المركزى..! سقطت القنبلة الأولى على الإذاعة مباشرة..!

المدرعات تتقدم، وأصوات القنابل تدوى، والقنابل المسيلة للدموع تنطلق عالياً وتسقط فى وسط الميدان حيث الحديقة.

كنا أمام مدخل شارع كوبرى قصر النيل والقنابل يتم إطلاقها من أمام جامع عمر مكرم بكثافة رهيبة فوجئنا بأننا فى مرمى تصويبهم، فنصحنى عبدالرحمن يوسف بأن نفترق حتى إذا تم إلقاء القبض على أحد لا يتم إلقاء القبض علينا نحن الاثنين- وكأنه كان يتوقع ذلك- وبالفعل انطلق عبدالرحمن يوسف ناحية اليمين عائدا للصينية وأكملت أنا طريقى ناحية المتحف وحدث تدافع رهيب بسبب استمرار القصف وكثافته ومحاولتنا الخروج بسرعة من الميدان الذى أصبحت الرؤية به شديدة الصعوبة بسبب قنابل الدخان المسيل للدموع التى لم تتوقف، وفجأة شعرت بعمود من النار يخترق ساقى اليمنى وسقطت على الأرض من شدة الإعياء وفى نفس اللحظة وقعت قنبلة بجوار وجهى، وانبعث الغاز بسرعة فائقة فى وجهى وشعرت حينها بأننى أموت فعلاً خاصة أننى أعانى من ضيق تنفس شديد وحساسية مزمنة بصدرى أعالج بها منذ صغرى.

تمنيت فى هذه اللحظة الموت من شدة الألم الذى مزق صدرى، كنت أسعل بشدة يكاد قلبى يتوقف معها مع هذه الكمية الكبيرة من الغاز الخانق، لم أستطع التحرك وظللت على الأرض ودموعى تسيل وأنا أرى تدافع الشباب ومحاولتهم الخروج من الميدان وسقوط الكثير على الارض اختناقا بسبب الكم الهائل الذى لم يتوقف من القنابل، لم أتخيل أن يفعلوا بنا كذلك، إننا مصريون مثلهم ولسنا أعداء للوطن، كيف يتعاملون معنا بهذه الوحشية ونحن شباب هذا الوطن وصفوته.

وتم إخلاء الميدان بالقوة واعتقالى، ما زلت أتذكر صوت الشخص الذى كان يحقق معى وأنا معصوب العينين وهو يقول لى: أنتم بيتلعب بيكم واللى نزلوا المظاهرات دول إخوان مسلمين بتكليف من البرادعى وأمريكا، إحنا عارفين إنك بتحب البلد إنت والشباب اللى زيك بس إنتم اضحك عليكم والبرادعى اللى إنت بتدافع عنه ده عميل لأمريكا وإسرائيل وهو اللى باع العراق لأمريكا، مش عارف تبقوا إزاى متعلمين ومتعرفوش كده وتفضلوا ماشيين وراه وعاملينه زعيم، وعموما هو سابكم أهو لوحدكم ومش سائل فيكم بعد ما ورطكم. أجبته بانفعال: الكلام د مش صح، يا فندم أنا زى شباب كتير من ولاد الطبقة المتوسطة اللى نزلوا النهارده وعملوا المظاهرات دى، إحنا ممكن نكون مرتاحين نسبيا، لكن ما ينفعش نلاقى الغلابة بتاكل من الزبالة والناس بتموت عشان معندهاش فلوس تصرف على علاجها، يا فندم احنا كنا بنهتف النهارده عيش حرية كرامة إنسانية إنتم ليه مستكترين علينا ده، عايزين نعيش زى ما كل الناس عايشة ونحس إننا بشر.

قاطعنى قائلا: والله إنتم طيبين والإخوان والبرادعى ضحكوا عليكم ووظفوكم لأغراضهم وإنتم اللى هتدفعوا التمن قلت له: على فكرة اللى نزلوا دول شباب مصرى مالهوش فى السياسة ومش تبع الإخوان، لازم تصدقوا دا، فى حاجة فى مصر اتغيرت ولازم تتعاملوا معاها بشكل جديد، إحنا مش خونة ولا تبع حد واللى حصل النهارده بيأكد إن خلاص مش هينفع تتعاملوا معانا بنفس الأسلوب.

لم يقتنع بكلامى هو ونظامه واستمروا فى إنكار الواقع إلى أن قامت الثورة الحقيقية يوم ٢٨ يناير، هذا اليوم الذى أعتقد أنه التاريخ الحقيقى لاندلاع أروع ثورة إنسانية فى التاريخ الحديث.

سلط الإعلام الضوء على أشخاص مثلى ومثل وائل غنيم وشباب ائتلاف الثورة وبقية الائتلافات على أننا أبطال الثورة ولكن ضميرنا يوجب علينا أن نؤكد أنه لا يوجد أبطال لهذه الثورة، فالشعب المصرى هو البطل الوحيد وهو الذى صنع الثورة الحقيقية، مهما بدا للناس غير ذلك فليست صفحة على الإنترنت ولا حركة احتجاجية شبابية أو أفراد قرروا النزول لمظاهرة أن يدعوا أنهم سبب الثورة فهذا هراء، بل كانت الثورة نتيجة تراكم لنضال طويل شارك فيه جميع المصريين من مختلف الطبقات والأجيال، هناك من مهدوا لنا الطريق بعطائهم وبذلهم وثباتهم، هناك من صودرت أموالهم ومن حوكموا عسكريا ومن قتلوا فى سجون مبارك بالتعذيب ومن كسروا حاجز الخوف فى الاحتجاجات العمالية والسياسية، وشاء الله أن يحصد جيلنا ثمرة هذا التراكم.

هناك جنود مجهولون فى كل محافظات مصر ضحوا بأرواحهم من أجل هذا الوطن وحريته، هناك كثيرون لم يعرفهم الإعلام ولم يعرفهم الناس ولكن الله يعرفهم وسيجازيهم بالخير.

صناع الإحباط واليأس يقولون إن الثورة لم تصنع شيئاً على الإطلاق وقد فشلت الثورة، وهذا كلام لا علاقة له بالواقع، إن ما حققته الثورة كثير كثير وأعظم ما صنعته الثورة من وجهة نظرى أنها كسرت حاجز الخوف لدى المصريين فلم يعودوا يخافون من طاغية ولا قمع ولا استبداد.

وهذه هى أهم ضمانة لنجاح هذه الثورة واستكمال تحقيق أهدافها، لن يستطيع أى شخص ولا مؤسسة أن تستعبد هذا الشعب مرة أخرى، بل سيقرر الشعب ما يريد وسينفذه مهما طال الأمد أو تعثرت الخطوات.

نقسم بالله العظيم ونحن نبدأ برلمان الثورة أن نكمل أهداف الثورة وأن نكون أوفياء لدماء الشهداء التى لن تضيع هباء، لقد بدأنا السير فى الطريق ومازال هناك ما يجب إنجازه وسننجزه طالما أن الأمل بقلوبنا والحلم لهذا الوطن.. سنكون يوما ما نريد.