الاثنين، 17 نوفمبر 2008

علو الهمة

علو الهمة

مقدمة
الهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول..
قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال
الهمة محلها القلب
الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد..
إن يَسْلُب القوم العِدا مُلْكِي وتُسْلِمني الجموعْ
فالقلب بين ضُلُوعِهِ لم تُسْلِمِ القلبَ الضلوعْ
ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة :
" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا "
الحث على علو الهمة في القرآن والسنة
تواردت نصوص القرآن والسنة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور ، والتسابق في الخيرات ، وتحذيرهم من سقوط الهمة ، وتنوعت أساليب القرآن في ذلك ..
فمنها: ذم ساقطي الهمة وتصويرهم في أبشع صورة :
( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون )
ومنها: ثناؤه سبحانه على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون
وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل وعلى رأسهم خاتمهم محمد  ..
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل )
ومنها : أنه عبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة ، والقوة في دين الله
( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين )
( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة )
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )
ومنها : أنه سبحانه أمر المؤمنين بالهمة العالية ، والتنافس في الخيرات ..
( فاستبقوا الخيرات )
أما السنة الشريفة فمليئة بالكثير من الصور ..
قال  : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها )
وقال  لأصحابه : ( إن الله تعالى يحب معالي الأمور ، ويكره سفاسفها )
وقال  يوصي أصحابه: ( إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل )
وقال  : ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ..فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة )
همَّة المؤمن أبلغ من عمله
وقال  :" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري
وقال  : " من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه " رواه مسلم وغيره
وقال  فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: " قد أوقع الله أجره على قدر نيته " رواه الإمام أحمد وغيره
وقال  : " ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم ، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه " رواه النسائي وأبو داود
وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بيَّن ذلك الصادق المصدوق  في قوله:
" سبق درهم مائة ألف "، قالوا: يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ،
قال:" رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ،
فأخذ من عَرْضها مائة ألف "رواه أحمد وغيره
نماذج من علو الهمة
إذا تأملت أخي سيرة النبي المصطفى- صلى الله عليه وسلم- والصحب والتابعين الكرام، فإنك ولا شك سترى الهمة العالية في أبهى صورها، والأهداف السامية التي كانوا يسعون لتحقيقها، وهي ليست أمانيَ دون عمل، بل لحق بتلك الأماني العمل الدؤوب والجهد المتواصل؛ حتى وصل الواحد منهم لمراده، وتأمل ماذا طلب ربيعة بن كعب، وماذا أراد أبو هريرة، وما حقَّقه ابن عباس..!!
هي قمم يطلبها الإنسان بقلبه ولسانه وعمله، ودون ذلك يكون قد غرق في الأحلام وغطاه بحر الأماني
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

أهمية علو الهمة
كل شيءٍ يحتاج إلى همة لإنجازه، وعلى قدر عِظَم هذا الشيء تعظُم الهمة المطلوبة لتحقيقه.. يقول ممشاد الدينوري: "همتك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال".. ويقول الإمام ابن القيم: "لا بد للسالك من همَّة تسيِّره وترقِّيه، وعلم يبصِّره ويهديه".
وتتجلى أهمية التحلي بهذه الصفة الجليلة فيما يلي:
1- تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً أو يستصعبون تحقيقه، ومن ذلك أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يبني أعظم أمة أخرجت للناس، ويربي جيلاً قرآنيًّا فريدًا خلال 23 سنة، وأبو بكر الصديق في أقل من سنتين يُنهي فتنة المرتدين، ويُرجع الجزيرة إلى حظيرة الإسلام، ولم يمُت- رضي الله عنه- إلا وجيوشه تحاصر الروم.
وهذا أبوحاتم- رحمه الله- يقول: ذهبنا إلى عبد الله بن مسلمة- من علماء القرن الثاني- فسألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند حجاج بن منهال.. فقال: فإذا فرغتم.. قلنا: نأتي مسلم بن إبراهيم.. قال: فإذا فرغتم.. قلنا: نأتي أبا حذيقة النهدي.. قال: فبعد العصر.. قلنا: نأتي عارم أبا النعمان.. قال: فبعد المغرب.. فكان يأتينا بالليل.
إن الإنسان العادي يستصعب تلك الأعمال، بل البعض يجعلها من المستحيلات، لكن صاحب الهمة العالية المرتبطة بهدف نبيل وغاية عزيزة له نظرة أخرى، وهذه الأمور العظيمة التي سنحققها إن شاء الله تعالى بهممنا السامية تكون في مجالات شتى، في طلب العلم.. في العبادة والزهد.. في الدعوة إلى الله تعالى.. في تنفيذ مشاريع كبيرة.. إلخ.

2- البعد عن سفاسف الأمور.. يقول الإمام ابن الجوزي: "قد رأيت عموم الخلق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، ورأيت النادرين من الناس قد فهموا معنى الزمان وتهيؤوا للرحيل، فاللهَ اللهَ في مواسم العمر، والبدارَ البدارَ قبل الفوات، ونافسوا الزمان".

لا أدري ماذا كان ابن الجوزي يقول عن زماننا لو رأى كيف يقضي أبناء المسلمين وشبابهم- بل أحيانًا كبراؤهم وعقلاؤهم- أوقاتَهم في التسكُّع في المجمعات، ومضايقة الخلق، وفي اللعب الباطل، أو في المقاهي العابثة؛ لا يقيمون للوقت وزنًا، ولا لحياتهم معنى..!!

وهذا الإمام عبد الغني المقدسي من علماء الحنابلة في القرن السادس الهجري: "كان لا يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن وربما قرأَ شيئًا من الحديث تلقينًا، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي إلى قبل الظهر، ثم ينام نومةً يسيرةً، ثم يصلي الظهر ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ إلى المغرب، فإن كان صائمًا أفطر وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ثم ينام بعد صلاة العشاء إلى نصف الليل أو بعده، ثم يقوم كأن إنسانًا يوقظه فيتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، ثم ينام نومةً يسيرةً إلى الفجر، وهذا دأبه".
والهمة العالية في ذلك تتضح في أنه لم يتحمَّس يومًا أو يومين لسماع موعظة أو نصيحة ثم فتَر، بل كان هذا دأبه، قال عنه موفق الدين: "كان الحافظ عبدالغني جامعًا للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل".
إن صاحب الهمة العالية يستفيد من أوقاته أيَّما استفادة، فتكون مثمرةً بنَّاءةً، فساعاته محسوبة، وأيامه لا تضيع سدًى.

3- صاحب الهمة العالية عبدٌ لله وحده، فهو يتحرر من الانغماس في هواه ومن ذُلِّ نفسه للمال، ومِن تتبُّع شهواته للجاه والنساء.. يتحرر من عبوديته للأشخاص.. هو إنسان لا ينقاد لتسلط الأمر الواقع، بل يعمل لتغييره بما يوافق أحكام دينه.. هو لا يرضى لنفسه أن تنقاد لكافر، بل يتطلَّع ليوم تعلو فيه رايةُ الإسلام ويعمل لأجل ذلك.
خصائص كبير الهمة
يا عالي الهمَّة..
1 - بقَدْر ما تَتَعنَّى ، تنالُ ما تتمنَّى
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، و اللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب :
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسر من التعب
****
فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور *** بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا
****
أحزان قلبي لا تزول *** حتى أبشر بالقبول
وأرى كتابي باليمين *** وتُسَرَّ عيني بالرسول
****
عالي الهمة يُرى منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب ..
****
ذريني أنل ما لا يُنال من العُلا *** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة *** ولا بُدَّ دون الشَّهْدِ من إبر النحْلِ
****
2 - عالي الهمة لا يرضى بما دون الجنة
من أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلى لوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها
قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال  : " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة "
كبير الهمة لا ينقُضُ عَزْمه
قال تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله )
قال جعفر الخلدي البغدادي : " ما عقدت لله على نفسي عقدا ، فنكثته "
علام يندم كبير الهمة؟
يندم على ساعة مرت به في الدنيا لم يعمرها بذكر الله عز وجل ، قال  : " ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها "
يا كبير الهمة : لا يضرك التفرد ، فإن طرق العلاء قليلة الإيناس
فعالي الهمة ترقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يحصل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة ، و إلا انقطع به السبيل ..
إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء ، ولا يرضى بحياة مستعارة ، ولا بقُنيةٍ مستردة ، بل همه قنية مؤبدة ، وحياة مخلدة ، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي ، و لا ينتهي تحليقه دون عليين ، فهي غايته العظمى ، وهمه الأسمى..

3 - عالي الهمة لا يرضى بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئا في الدنيا فسوف يكون زائدا عليها ، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة ، بل لابد أن يكون في صلبها ومتنها عضوا مؤثرا
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدا * ولم أقتبس علما فما هو من عمري
إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته ما يراه مستحيلا ، وينجز ما ينوء به العصبة أولو القوة ،
ويقتحم الصعاب والأهوال لا يلوي على شيء
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
ندرة كبيريّ الهمة في الناس
يصدق عليهم قول الرسول  : " تجدون الناس كإبل مائة ، لا يجد الرجل فيها راحلة "
وهم في الناس ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين
وقد كانوا إذا عدوا قليلا فقد صاروا أعز من القليل

4 - عالي الهمة شريف النفس يعرف قدر نفسه
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه ، في غير كبر، و لا عجب ، ولا غرور ، وإذا عرف المرء قدر نفسه ، صانها عن الرذائل ، وحفظها من أن تهان ، ونزهها عن دنايا الأمور ، و سفاسفها في السر والعلن ، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها ، فتبقى نفسه في حصن حصين ، وعز منيع لا تعطى الدنية ، و لا ترضى بالنقص ، ولا تقنع بالدون ..
كبير الهمة عصامي لا عظامي
فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه ، لا اتكالا على حسبه ونسبه ، و لا يضيره ألا يكون ذا نسب ، فحسبه همته شرفا ونسبا ، فإن ضم كبر الهمة إلى نسب كان كعقد علق على جيد حسناء ..
***********
كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرا غير مجذوذ ، ويجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل ، فلا ترى واقفا إلا على أبواب الفضائل ، ولا باسطا يديك إلا لمهمات الأمور ..
إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال ، ويجتث منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة ..
مجالات علو الهمة :
1* علو الهمة في طلب العلم
قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسد ..
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله *** ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلى *** يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل
2* علو الهمة في العبادة والاستقامة
قال الحسن : من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره
قال وهيب بن الورد : إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل ..
واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت *** ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ساروا *** إلى المطلب الأعلى على مهل
3* علو الهمة في البحث عن الحق
لقد حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق
و بذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس ، فصاروا مضرب الأمثال ، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثا عن الحق مخلصا لله تعالى ، فإن الله عز وجل يهديه إليه ، ويمن عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام
ومن النماذج المشرقة في البحث عن الحق
سلمان الفارسي رضي الله عنه ..
أبوذر رضي الله عنه ...
4* علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى ..
كبير الهمة يحمل هم الدعوة
من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه ، وبلوغ الجهد في النصح لهم ، كما يتضح ذلك جليا لمن تدبر سير المرسلين ، خاصة خاتمهم وسيدهم محمد  ..
إن المتأمل لقوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم ليرى أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام ، واعتز بهم الإسلام ، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عباد صالحين ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم ، ولما تزينت بذكرهم صحائف التاريخ و لا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين ..
5* علو الهمة في الجهاد في سبيل الله
قال عمران بن حصين: ( ما لقي  كتيبة إلا كان أول من يضرب )
وكذلك الشجعان في أمته والأبطال لا يحصون عدة ، و لا يحاط بهم كثرة ، سيما أصحابه المؤيدين الممدوحين في التنزيل بقوله تعالى :
( محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )
قال  : ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف )
حال الأمة عند سقوط الهمة
إن سقوط الهمم وخساستها حليف الهوان ، وقرين الذل والصغار ، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا ،
فأورثتها قحطا في الر جال ، وجفافا في القرائح ، وتقليدا أعمى ، وتواكلا وكسلا ، واستسلاما لما يسمى الأمر الواقع ..
كل ذل يصيب الإنسان من غيره ، ويناله من ظاهره : قريب شفاؤه ، ويسير إزالته ،
فإذا نبع الذل من النفس ، وانبثق من القلب ، فهو الداء الدوي ، والموت الخفي ..
أسباب انحطاط الهمم
حتى نكون أبعد عن انحطاط الهمم لابد أن نتعرف على أسباب ذلك ..
1* الوهن .. كما فسره الرسول  : ( حب الدنيا، وكراهية الموت )
2* الفتور .. قال  : ( إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك )
3* اهدار الوقت الثمين في فضول المباحات .. قال  : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )
4* العجز والكسل .. قال تعالى: ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين )
5* الغفلة .. وشجرة الغفلة تُسقى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها
قال ابن القيم رحمه الله: لابد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم
6* التسويف والتمني .. وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلَّما همَّت نفسه بخير، إما يعيقها بسوف حتى يفجأه الموت، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم .
7* ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا.. قال  : ( إنما مَثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيك ، وإما أن تبتاع منه،وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة )
8* العشق .. لأن صاحبه يحسر همته في حصول معشوقه فيلهيه عن حب الله ورسوله.
9* الانحراف في فهم العقيدة .. لا سيما مسألة القضاء والقدر، عدم تحقيق التوكل على الله تعالى، بدعة الإرجاء.
10* الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم ..
قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم )
11* المناهج التربوية والتعليمية الهدامة .. التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول، وتنشىء الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية.
12* توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، وسنن الله عز وجل في خلقه.

أسباب الارتقاء بالهمة... كيف نرقى بهمتنا؟

لا يمكن لأي مسلم أن يرقى بهمته إلا بعدة وسائل وأسباب، وهي كثيرة، نذكر منها:

1- إرادة الآخرة، وجعل الهموم همَّا واحداً.. قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال  : ( من كانت همّه الآخرة، جمع الله له شملَه، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت همّه الدنيا، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له) .
2- الدعاء الصادق، والالتجاء إلى الله تعالى أن يقوِّيَ إرادتنا وعزيمتنا، ويشحذ من هممنا، والدعاء بإخلاص وتذلل وقت الأسحار، وبين الأذان ويوم الجمعة
وسائرالأوقات المباركات.
3 – الهم طريق الهمة: الداعية كثير التفكير في أحوال أمته، وسبل إصلاحها، وأسباب قوتها، دائم الفكر والتفكير فيها، سابح الفكر في أمرها، يحمل هموم أمته، يعاني من جراحاتها، يحزن لحزنها، يفرح لفرحها، يتمزَّق قلبه لعاصٍ يراه، يفرح بتوبة التائب وبعودة العائد، وليس له في ذلك مغنم- أيًّا كان- إلا أنه داعية القلب والفكر.

ومن هنا يتميَّز في همومه وأحزانه.. في طموحاته وآماله.. قد يعجب من حاله غيره، بل وقد ينكر عليه ذلك، ولكنه يعرف أن همَّه هو وقوده، وأن من علوِّ همته علو همِّه، وكذا شأن من سار على ما سار عليه، رغم إنكار من حوله له، لكنها الدعوة يا سادة.
الهم ديدن الحبيب
فهذا سيد الخلق وإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم كان همُّ الدعوة يملأ قلبه، ويشغل فكره، وقد بلغ به الأمر مبلغًا عظيمًا تنزلت فيه آياتٌ تتلى ليُخفِّف همَّه ويُذهب حزنه؛ قال ربنا جل في علاه: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)) (فاطر)، والحسرة: همُّ النفس وشدة الحزن على فوات الأمر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرةً على تركهم الإيمان".
وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم "حتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم، ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفًا بينهم، وهو حرص بشري معروف، يرفق الله برسوله مما وقعه في حسِّه، فيبيِّن له أن هذا ليس من أمره بل من أمر الله، وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير، ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدُّون عنها ويعرضون" (تفسير في ظلال القرآن ج 5).
فتأمل كيف كان حمله صلى الله عليه وسلم لهمِّ الدعوة حتى بلغ هذا المبلغ العظيم وحتى خاطبه ربه بقوله الكريم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) (سورة الكهف)، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا" (متفق عليه).
والصدِّيق على نهجه يسير
وعلى نهج الحبيب سار الصديق فكان مؤجّجًا لحماسته ومفجّرًا لطاقته حتى وَأَد الفتنة وقمع الردة وابتدأ الفتوح، ثم الفاروق رضي الله عنه، كان مهمومًا برعيته همًّا أورثه عدلاً قلَّ نظيره، وبذلاً أتعب من بعده، وعلى هذا كان الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المجدد يتكلم
"كنت متألمًا لهذا أشدّ الألم، فها أنا ذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين إسلامها الغالي العزيز الذي ورثته وحمته وألفته، وعاشت به، واعتزَّ بها أربعة عشر قرنًا كاملةً، وبين هذا الغزو الغربي العنيف المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه والمظهر والمتعة والقوة ووسائل الدعاية، وكان ينفس عن نفسي بعض الشيء الإفضاء بهذا الشعور إلى كثير من الأصدقاء الخلصاء، كما كان ينفِّس عن نفسي كذلك التردُّد على المكتبة السلفية؛ حيث نلقى الرجل المؤمن المجاهد العامل القوي العالم الفاضل والصحفي الإسلامي القدير السيد محب الدين الخطيب، ونلتقي بجمهرة من أعلام الفضلاء المعروفين بغيرتهم الإسلامية وحميتهم الدينية"، كتاب (مذكرات الدعوة والداعية).


4- المجاهدة: وهي أهم وسيلة تأخذ بيدك للمعالي.. يقول تعالى: ﴿والَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِيْنَ﴾ (العنكبوت: 96)، بأن تطلب العلم وتدعو إلى الله تعالى، يكون لك تميز في أعمالك، تخطط لمشروع دعوي بارز، كل ذلك يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة وسهَر وإشغال فكر..!!
فلتتأمل في هذا الموقف وتخيل مقدار ما فيه من مجاهدة.. قال ابن القيم: "أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه.

5 - صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم..
"من يؤثر فيك فعله قبل مقاله".
6 - قراءة سير سلف هذه الأمة.. يقول الإمام ابن الجوزي: "وعليكم بملاحظة سير القوم، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم؛ فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم".
7- الابتعاد عن كل ما مِن شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها: وكل إنسان أعرفُ بنفسه وبما يؤثر فيها ويحبطها، ومن ذلك:..
- مصاحبة البطالين وذوي الهمم الدنيا، أو من ليس عندهم أي همة أصلاً.
- الانهماك بتحصيل المال.
- كثرة التمتع بالمباح، وأن يكون هو الشغل الشاغل.
7 - التحول عن البيئة المثبطة
اذا لم يجدى العلاج كان فى التحول عن البيئة أملا

نسأل الله تعالى أن يُعلي همتنا، ويقوِّيَ إرادتنا، وينصرنا على أنفسنا وأعدائنا.. آمين.
أطفالنا وعلو الهمة
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر، وأُهْمِل إهمالَ البهائم شقي وهلك.. وصيانته بأن يؤدِّبَه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق ..
وقال ابن خلدون: التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده.
كِبَارُ الهمَّةِ النَّابغُون .. مُخْتَصَرُ الطريق إلى المَجْد..
إن المرء لا يولد عالماً، وإنما تربيه جماعة، وتصنعه بيئة، و تتعهده بالرعاية والتعليم، حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه .
.........
أثر عُلُوّ الهمَّة في إصلاح الفرد والأمَّة
أصحاب الهمة العالية هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، و يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثَمَّ فهم القلة التي تنقذ الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة " الانتشال السريع " من وحل الوهن، و وهدة الإحباط.
...............
زاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء المجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فإن مرور الزمن ليس من صالحك، وإن الطغيان كلما طال أمده، كلما تأصَّلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولابد من مبادرة تنتشل، ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة .
..........
هذا زمان لا توسُّط عنده *** يبغي المغامر عالياً وجليلا
كن سابقاً فيه أو ابق بمعزلٍ *** ليس التوسط للنبوغ سبيلا
..........
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة " عُمَرِيَّة " توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة " أيوبية " تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز .
ــــــــــــــــــ